في مشهدٍ مهيب، يمتزج فيه نور الإيمان بوهج الإنسانية، رسمت الطريقة الكركرية لوحةً فريدة من العطاء والتآزر في رحاب زاويتها العامرة بمدينة العروي، إقليم الناظور. لم تكن هذه المناسبة حدثاً عادياً، بل كانت احتفالية بكل المقاييس، حملة دولية للتبرع بالدم، تُوجت في قلب فعاليات الأسبوع الدولي السابع للتصوف، الذي يوافق تزامنًا مع حلول ذكرى المولد النبوي الشريف. هذه المبادرة النبيلة، التي تجاوزت أبعادها الصحية لتلامس أعمق معاني الروحانية والمسؤولية الاجتماعية، جاءت لتؤكد أن التصوف الحقيقي هو منهج حياة، ينبض بالعطاء ويخدم الإنسان في أسمى صوره.
إن الإلهام الحقيقي لهذه الحملة انبعث من قمة الهرم الروحي للطريقة، حيث افتتح الشيخ المربي سيدي محمد فوزي الكركري قدس الله سره الحملة بنفسه، ليكون أول المتبرعين بدمه الطاهر. لم تكن هذه الخطوة مجرد إجراء روتيني، بل كانت لقطة رمزية بالغة الأثر، تجسد القدوة الحسنة في أبهى صورها. إن مبادرة الشيخ بتقديم دمه قبل الجميع، هي رسالة واضحة لكل المريدين وأبناء الطريقة، مفادها أن العطاء والإيثار ليست مجرد مفاهيم نظرية تُلقى على المنابر، بل هي ممارسة عملية تتجسد في الأفعال وتترسخ في القلوب. هذه القدوة هي حجر الزاوية في بناء شخصية المريد الكركري، الذي يتعلم أن خدمة الخلق هي جزء لا يتجزأ من خدمة الخالق.
ما ميز هذه الحملة بشكل لافت هو الطابع الدولي للمشاركة. فبينما كانت جنبات الزاوية تستقبل المتبرعين من مختلف المدن المغربية، توافد عليها أيضاً أبناء الطريقة الكركرية من جنسيات متعددة، قادمين من دول أوروبية وآسيوية وإفريقية، مجسدين بذلك مشهداً إنسانياً مبهراً للتضامن والتكافل. هذه المشاركة الواسعة تؤكد أن رسالة التصوف، وبشكل خاص رسالة الطريقة الكركرية، عابرة للحدود الجغرافية والثقافية، وأنها قادرة على جمع القلوب على محبة الخير والعطاء، بصرف النظر عن اللون أو اللغة أو الجنسية. إنها برهان ساطع على أن الروحانية الأصيلة يمكن أن تكون جسراً للتواصل الإنساني، يجمع بين الشعوب على قاسم مشترك من القيم النبيلة. هذا التجمع الدولي في قلب الناظور، يعكس أيضاً المكانة المتزايدة التي تحظى بها الطريقة الكركرية كمركز إشعاع روحي وإنساني عالمي.
لم تكن هذه الحملة لتكتمل فعاليتها وتصل إلى أهدافها السامية لولا الشراكة الفاعلة والتعاون المثمر بين الطريقة الكركرية ومجموعة من المؤسسات الرسمية والمدنية. فقد تم تنظيم هذه المبادرة الإنسانية الكبرى بشراكة محورية مع المندوبية الإقليمية لوزارة الصحة بالناظور، والتي قدمت الدعم اللوجستي والفني اللازم، إضافة إلى بنك الدم الذي تكفل بجمع وتخزين وحدات الدم المتبرع بها، والهلال الأحمر المغربي الذي ساهم بخبرته التنظيمية وتعبئة المتطوعين. هذه الشراكة ثلاثية الأبعاد تؤكد التزام الطريقة الكركرية الراسخ بخدمة الوطن والمجتمع، وتُبرز وعيها العميق بأن العمل الاجتماعي الفعال يتطلب تضافر الجهود بين كافة الفاعلين. إنها تجسيد عملي لمفهوم التكامل، حيث تتحد الجهود الروحية والمؤسساتية والمدنية لتحقيق هدف أسمى وهو إنقاذ الأرواح.
تستمد هذه الحملة معناها العميق من جوهر الرسالة الإسلامية الخالدة، وتحديداً من قوله تعالى: “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا”. إن التبرع بالدم في فكر الطريقة الكركرية ليس مجرد إجراء طبي، بل هو “هدية من القلب إلى القلب”، رسالة إنسانية نبيلة تسعى إلى إنقاذ حياة المرضى والمحتاجين، وتجسد البعد العملي للتصوف في خدمة الإنسان. يعتبر أبناء الطريقة أن هذه المبادرة هي ترجمة حقيقية لرسالة الرحمة التي جاء بها سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، الذي كان أرحم الناس بالناس، وأكثرهم عطاءً وإحساناً. إن التصوف الأصيل، كما تراه الطريقة الكركرية، ليس انعزالاً عن الدنيا أو انقطاعاً عن المجتمع، بل هو انخراط إيجابي وفعال في قضايا الأمة والإنسانية جمعاء، مع السعي الدائم لتطبيق القيم النبوية في الحياة اليومية.
لقد لقيت هذه الحملة الإنسانية استقبالاً حاراً واستحساناً كبيراً من قبل جميع المشاركين والمتتبعين، وذلك لما حملته من معانٍ سامية تجاوزت مجرد جمع الدم. فقد جمعت الحملة ببراعة بين البعد الروحي الصوفي العميق والبعد الإنساني العريض، وأبرزت الوجه المشرق للتصوف المغربي الذي طالما كان جسراً للتواصل بين الشعوب والأديان والثقافات. إن الصوفية المغربية، عبر تاريخها العريق، كانت دائماً منارة للعلم والأخلاق والعطاء، وساهمت في بناء حضارة إنسانية راقية تقوم على أسس المحبة والسلام والتكافل. هذه الحملة هي امتداد لهذا الإرث العظيم، وتأكيد على أن التصوف، في جوهره، هو دعوة إلى الإحسان والبر والعطاء غير المشروط، وتفعيل لمبدأ “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”، مع ترك أثر طيب وخير مستدام.
بإتمام هذه الحملة الناجحة، تكون الطريقة الكركرية قد أضافت لبنة جديدة وقوية في صرح مبادراتها الاجتماعية والتضامنية المتواصلة. لقد أكدت هذه المبادرة مرة أخرى أن التصوف ليس مجرد حلقات ذكر وأوراد وعبادات فردية فحسب، بل هو كذلك فعل إيجابي متجدد، وعطاء لا يتوقف في خدمة الإنسانية جمعاء. إنها رسالة واضحة بأن الروحانية الحقة تترجم إلى عمل ملموس يخدم المجتمع ويساهم في بناء مستقبل أفضل، حيث تتضافر الجهود لتحقيق الخير العام، وحيث يكون كل فرد، بفضل قيمه الروحية، عنصراً فاعلاً في بناء مجتمع تملؤه المحبة والرحمة والتعاون
